التفسير:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}
. أى : اقرأ – أيها الرسول الكريم ما سنوحيه إليك من قرآن كريم – ولتقرأ مبتدئًا ومستعينًا باسم ربك ، لا باسم غيره ، فهو – سبحانه – الذى خلق الأشياء جميعها ، والذى لا يعجزه أن يجعلك قارئاً ، بعد كونك لم تكن كذلك .
وقال – سبحانه – : { الذي خَلَقَ } للتذكير بهذه النعمة ، لأن الخلق هو أعظم النعم ، وعليه تترتب جميعها .
وقد افتتحت السورة الكريمة بطلب القراءة من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان أميًّا لتهيئة ذهنه لما سيلقى عليه صلى الله عليه وسلم من وحى.
………………………………………….. …..
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}
أي :خلق هذا الإنسان البديع الشكل ، الذي هو أشرف المخلوقات ، من قطعة دمٍ غليظ أحمر, أو من العلقة – وهي الدودة الصغيرة – وقد أثبت الطب الحديث أن المني الذي خلق منه الإنسان ، محتوٍ على حيوانات وديدان صغيرة لا ترى بالعين ، وإنما ترى بالمجهر الدقيق – الميكرسكوب – وأن لها رأسا وذنبا ، تسمى (الحيوانات المنوية) ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
و " العلق " الدم الجامد ، وهو الطور الثاني من أطوار خلق بني آدم المذكورة في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون:12–14]
وقيل : العلق : مجموعة من الخلايا التى نشأت بطريقة الانقسام عن البويضة الملقحة ، وسمى " علقا " لتعلقه بجدار الرحم .
وجملة { خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ } بدل من قوله { الذي خَلَقَ } بدل بعض من كل ، إذ خلق الإِنسان يمثل جزءًا من خلق المخلوقات التى لا يعلمها إلا الله .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته – تعالى – فكأنه – سبحانه – يقول : إن من كان قادراً على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً يسمع ويرى ويعقل . . قادر على أن يجعل منك – أيها الرسول الكريم – قارئاً ، وإن لم تسبق لك القراءة .
وخص – سبحانه – خَلْقَ الإِنسانِ بالذكر ، لأنه أشرف المخلوقات ولأن فيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه .
………………………………………….. ……..
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}
أى : اقرأ -أيها النبي- ما أُنزل إليك، وإن ربك لكثير الإحسان واسع الجود، الذي علَّم خلقه الكتابة بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يكن يعلم، ونقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
قالوا : وإنما كرر – سبحانه – الأمر بالقراءة ، لأنه من الملكات التي لا ترسخ فى النفس إلا بالتكرار والإِعادة مرة فمرة .
وجملة { وَرَبُّكَ الأكرم } مستأنفة لقصد بيان أنه – تعالى – أكرم من كل من يلتمس منه العطاء.
ومفعولا " علَّم " محذوفان ، دل عليهما قوله { بالقلم } أى : علم ناسًا الكتابةَ بالقلم .
وتخصيص هذه الصفة بالذكر ، للإِيماء إلى إزالة ما قد يخطر بباله صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة بالنسبة له ، لعدم معرفته الكتابة ، فكأنه – تعالى – يقول له : إن من علَّمَ غيرك القراءة والكتابة بالقلم ، قادر على تعليمك القراءة وأنت لا تعرف الكتابة ، ليكون ذلك من معجزاتك الدالة على صدقك ، وكفاك بالعلم فى الأمة معجزة .
فائدة: قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : فأول شئ من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهو أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقه ، وأن من كرمه – تعالى – أن علم الإِنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة . .
وقال الشيخ محمد عبده : ثم إنه لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه ، من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات.
………………………………………….. ….
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)}
أي:حقًا إن الإنسان ليتجاوز حدود الله ,ويتكبر ويتمرد على الحق إذا أبطره الغنى، ورأى نفسه – لكِِبْرِه- ليست فى حاجة إلى غيره . فليعلم كل طاغية أن الرجوع والمصير إلى الله، فيجازي كلَّ إنسان بعمله.
وقيل المراد بالإِنسان هنا : أبو جهل ، وأن هذه الآيات وما بعدها حتى آخر السورة قد نزلت في أبى جهل ، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدًا يصلى عند الكعبة ، لأطأن على عنقه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لئن فعل لأخذته الملائكة " . ونزول هذه الآيات في شأن أبى جهل لا يمنع عموم حكمها ، ويدخل أبو جهل في هذا الحكم دخولاً أوليًا ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
………………………………………….. ….
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) }
أي:أرأيت – أيها الرسول الكريم – أعجب مِن طغيان هذا الرجل( وهو أبو جهل ) الذي ينهى عبدًا لنا إذا صلَّى لربه ( وهو محمد صلى الله عليه وسلم )؟ أرأيت إن كان المنهي عن الصلاة على الهدى فكيف ينهاه؟ أو إن كان آمرًا غيره بالتقوى أينهاه عن ذلك؟ أرأيت إن كذَّب هذا الناهي بما يُدعى إليه، وأعرض عنه، ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يفعل؟.
والمقصود من هذه الآيات الكريمة التي تكرر فيها لفظ " أرأيت " ثلاث مرات : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم . وتعجيبه من حال هذا الإِنسان الطاغي الشقي ، الذي أصر على كفره . وآثر الغي على الرشد . والشرك على الإِيمان . وتهديد هذا الكافر الطاغي بسوء المصير ، لأن الله تعالى مطلع على أعماله القبيحة . وسيعاقبه العقاب الشديد .
………………………………………….. ………
{كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) }
كلا:ردع وزجر لهذا الكافر الناهي عن الخير ، ولكل من يحاول أن يفعل فعله .
أي: ليس الأمر كما يزعم الكافر الطاغي أبو جهل وأمثاله. لئن لم يرجع هذا عن شقاقه وأذاه لنأخذنَّ بمقدَّم رأسه أخذًا عنيفًا، ويُطرح في النار، ناصيته ناصية كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها. ووصفت الناصية بأنها خاطئة مبالغة فى تعمد هذا الإِنسان لارتكاب المنكر ، على حد قولهم : نهار صائم ، أى : صائم صاحبه ، ولأن الناصية هى مظهر الغرور والكبرياء .
والأمر فى قوله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } للتعجيز . أى :فليُحْضِر هذا الطاغية المغرور أهل ناديه الذين يستنصر بهم لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولمنعه من الصلاة ، إن قدروا على ذلك ، فنحن من جانبنا سندع الزبانية ، وهم ملائكة العذاب الغلاظ الموكلون بعقاب هذا المغرور وأمثاله .
و ( النادي ): هو المكان الذي يجتمع فيه الناس للحديث ، ولا يسمى المكان بهذا الاسم إلا إذا كان معدًا لهذا الغرض.
وقوله – تعالى – : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب } أي:ليس الأمر على ما يظن هذا المغرور أبو جهل. إنه لن ينالك -أيها الرسول- بسوء، فلا تطعه فيما دعاك إليه مِن تَرْك الصلاة، واسجد لربك واقترب منه بالتحبب إليه بطاعته وفي الحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا من الدعاء ".
وفي الآية ردع آخر لهذا الكافر عن الغرور والبطر والطغيان ، وإبطال لدعواه أنه سيدع أهل ناديه ، وتأكيد لعجزه عن منع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة .
……………………….
* وقد بدأت السورة بالدعوة إلى القراءة والتعلم ، وختمت بالصلاة والعبادة ، ليقترن العلم بالعمل ، ويتناسق البدء مع الختام ، في أروع صور البيان.
وبالتوفيق=$