إليه البطل في لحظة من لحظات السمو على كل ما يخضع له الناس من رغبة أو
رهبة إخلاصاً لما آمن به من القيم والمثل.
وعلى هذا فليس كل شجاعة بطولة، وليس كل شجاع بطلاً وليست البطولة هي
الشجاعة، وإنما الشجاعة من صفات البطل لا أكثر.
وللبطولة بواعث شتى تبعث إليها، فهي ليست مقصورة على المواقف الرائعة
الفذة التي يأتي بها الأبطال في ساحات الوغى وإنما هي ضروب وألوان.
بواعث البطولة
1- الإيمان بالله :-
الإيمان الله ـ عز وجل ـ يقف على قمة البواعث، ذلك لأن الإيمان الحق قوة
مبدعة إذا مست القلوب اهتزت بأروع الشمائل ـ الخصال والصفات ـ وربت أجل
الخصال وأنبتت من البطولات أجلها ـ أعظمها ـ تضحية وفداء وأرساها بذلاً
وعطاء وأبقاها على الدهر.
وتاريخنا الاسلامي حافل بهذه الألون من البطولات غنى بها غِنى يفوق كل تقدير
منذ فجر البعثة إلى يوم الناس، هذا وسيبقى بإذن الله سمة من سمات الأمة
الإسلامية حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهاك مثالاً لذلك :-
في السنة التاسعة عشر للهجرة بعث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جيشاً
لحرب الروم، وكان قيصر ـ عظيم الروم – قد تناهت إليه أخبار ضد المسلمين
وما يتحلون به من صدق الإيمان ورسوخ العقيدة واسترخاص النفس والنفيس في
سبيل الله، فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين السابقين أن
يبقوا عليه ويأتون به حياً، ويشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة السهمي
أسيراً في أيدي الروم فحملوه إلى مليكهم، وقالوا: "إن هذا من أصحاب محمد
السابقين"، نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلاً ثم بادر قائلاً إني
أعرض عليك إن تتنصر فان فعلت أطلقت سراحك وأشركتك في ملكي وقاسمتك
سلطاني.
فتبسم الأسير المكبل في قيوده وقال: "والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع
ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ طرفة عين
ما فعلت"، قال: "إذا أمتك"، قال: "أنت وما تريد"، ثم أمر به فصلب وقال
لقناصته ـ بالرومية – ارموه قريباً من يده، وهو يعرض عليه التنصير فيأبى،
فقال ارموه قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه مفارقه دينه فيأبى، فأمر به
إلى السجن ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، ووضعوا عنده لحم خنزير وخمر
ودخلوا عليه بعد ثلاث، فإذا هو مالت عنقه من الجوع والعطش فسألوه لم تأكل
الخنزير وتشرب الخمر.
فقال: "أما إن الضرورة أباحت لي ذلك ولكني خشيت أن يشمت أمثالكم في
الإسلام وأهله".
فأدخلوا عليه أجمل نسائهم لعل فتنة النساء تعطيهم ما يريدون أو تروى
غليلهم، فتعرضت له فأعرض عنها وهو يتلو القرآن، حتى خرجت تقول: "والله لا
أدري أأنثى أم ذكر، أأدخلتموني عل رجل أم على حجر".
وتتحطم فتنة النساء على صخرة الإيمان، بعد أن تحطمت فتنة المال والسلطان
على نفس الصخرة.
ثم دعا قيصر بقدر عظيم فصب فيه الزيت، ورفعت على النار حتى غلت، ثم دعا
بأسيرين من أسرى المسلمين فأمر بأحدهما أن يلقى فيها، فألقى فيها فإذا
لحمه يتفتت وإذا عظامه تبدو عارية، ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة وعرض
عليه النصرانية، فكان أشد إباء لها من ذي قبل، فأمر به أن يلقى في القدر
فلما ذهب دمعت عيناه، فقالوا لقيصر: "إنه قد بكى"، فظنوا أنه قد جزع
فقال: "ردوه"، فلما مثل به بين يديه عرض عليه النصرانية فأباها،
فقال: "ويحك فما الذي أبكاك"، قال: "أبكاني أنى قلت في نفسي: تلقى الآن
في القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهى أن يكون بعدد ما في جسدي من شعر
فتلقى كلها في نفس القدر في سبيل الله". فقال الطاغية: "هل لك أن تقبل
رأسي وأخلى عنك؟"، فقال عبد الله : "وعن جميع المسلمين أيضاً". قال وعن
جميع المسلمين.
وعندما وطأت قدما عبد الله بن حذافة المدينة النبوية كان الخبر قد سبقه
إلى أهلها، فقال له عمر بن الخطاب وهو فرح مسرور بثبات عبد الله وقوة
إيمانه: "حقٌّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك!
فقام وقبل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه.
2- الكرامة و العزة :-
من بواعث البطولة الكبرى الشعور العميق بالكرامة والإحساس الشديد بالعزة
ـ العزة بالإيمان ـ والأنفة من العار، فعقبة بن نافع أقبل على موارد الردى
ـ القتل ـ وهو يعلم علم اليقين انه لا صدر بعد هذا الورود.
ومحمد بن حميد الطوسي رأى باب الموت مفتوحاً أمامه فدخله أنفة من عار
الفرار.
3- الحب في الله :-
كم سجل التاريخ في أسفاره من بطولات المحبين وتضحياتهم قصصاً تستلين
القلوب القاسية وتستدر الدموع العاصية، ولعل أروع مثل على هذا الحب
وبطولاته ما روته كتب التراجم والسير عن خبيب بن عدى ـ رضي الله عنه ـ بعد
أن ظفرت به قريش بعد بدر وصلبوه ليقتلوه، وكان على رأس الناس يومئذ أبو
سفيان بن حرب وصفوان بن أمية. وتقدم أبو سفيان، وقال له: "أناشدك الله
أتحب أن يكون محمد مكانك الآن تضرب عنقه وإنك في أمن في أهلك؟"، فتبسم
خبيب، وقال: "والله ما أحب أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكانه الذي
هو فيه الآن، وأن شوكه تصيبه فتؤذيه وإني جالس في أهلي". فما كان من أبي
سفيان إلا أن قال: "والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد".
4- الإيثار على النفس :-
تأمل معي هذه القصة التي مهما نسى المسلمون كل تاريخهم الحافل فلن ينسوا
ذلك الموقف الرائع الذي ختمت به معركة اليرموك، ذلك أنه عندما انجلت تلك
الواقعة الفاصلة عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين، كان يتمدد على الأرض ثلاثة
أبطال أثخنتهم ـ أضعفت وأوهنت قواهم ـ الجراح، هم الحارث بن هشام، وعياش
بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، فدعا الحارث
بماء ليشرب فلما قدم له نظر إليه عكرمة فقال الحارث: "ادفعوا إليه"،
فلما قربوه من عكرمة نظر إليه عياش، فقال: "ادفعوه إليه"، فلما دنوا من
عياش وجدوه قد قضى نحبه، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به.
5- غنى النفس (الزهاده) :-
حدث لأحد أعيان مكة، قال: دخلت بستاناً من بساتين المدينة، فوجدت رجلاً
حبشياً يجلس إلى جذر البستان وفى يده رغيف من الخبز وأمامه كلب مقع ـ
جلسة الكلب على رجليه الخلفيتين ـ فكلما اقتطع من الرغيف لقمه اقتطع
أخرى ودفع بها إلى الكلب.
فدنوت منه وقلت: أهذا كلبك؟
قال : لا.
قلت: فلم تطعمه وما معك غير هذا الرغيف.
قال: لأننا أمرنا ألا نأكل وذو عين ينظر إلا أطعمناه مما نأكل.
فقلت: أحر أنت أم عبد.
فقال: بل أنا لآل فلان.
فقلت: وهذا البستان؟
فقال إنه لهم، وأنا أعمل فيه.
فمضيت إلى سيده فشريته وشريت البستان أيضاً، ثم عدت إليه فإذا هو يعمل في
شجره، فقلت له: لقد اشتريتك من سيدك وأعتقتك لوجه الله، واشتريت منه هذا
البستان ووهبته لك ابتغاء مرضات الله، فما زاد على أن قال: الحمد لله الذي
أعتق رقبتي، والشكر له على ما وفقك لهذا الخير، أما البستان فاشهد أنى
تصدقت به على فقراء المدينة، فقلت: على رغم حاجتك؟
فقال: هداك الله، لقد أنعم عليّ الله، أفلا أكون عبداً شكوراً.
6- تقوى الله جل وعلا :-
من بواعث البطولة التقوى، فإذا تمكنت هذه المنقبة من قلب امرئ أحكمت
سلطانها على نفسه، وشددت قبضتها على هواه، وملأت بالبطولة أعماله
وتصرفاته، وما أحسن ما قيل في ذلك:-
ليس من يقطع طرفــــاً بطلاً إنما من يتقى
اللهَ البطلُ
كان التابعي الجليل محمد بن سيرين قد قسم حياته أقساماً ثلاثة، فجعل قسماً
للعلم يأخذه ويعطيه، وقسماً للعبادة يصفوا فيه إلى ربه، وقسماً للتجارة
يكسب فيه المال الذي يسد به الحاجات، ويقضى به الحقوق ويعود به على
المحتاجين، وفى ذات مرة اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم مؤجلة. فلما فتح
أحد زقاق الزيت ـ الزق: إناء من جلد تحفظ فيه السوائل ـ وجد فأراً ميتاً
متفسخاً، فقال في نفسه: إن الزيت كله كان في المعصرة في مكان واحد، وإن
النجاسة ليست خاصة بهذا الزق دون سواه وإني إن رددته للبائع بالعيب
فربما باعه للناس، ثم أراقه كله. وقع ذلك في وقت كان محمد بن سيرين
يشكوا من خسارة كبيرة حلت به، فركبه الدين، وطالبه صاحب الدين بماله فلم
يستطع سداده، فرفع أمره إلى الوالي فأمر بحبسه حتى يسدد ما عليه فلما
صار في السجن وطال مكثه فيه أشفق عليه السجان لما علم من أمر دينه وما
رأى من شده ورعه وطول عبادته، فقال له: أيها الشيخ إذا كان الليل فاذهب
إلى أهلك وبت معهم، فإذا أصبحت فعد إلى واستمر على ذلك حتى يطلق سراحك
فقال والله لا أفعل قال ولم؟
فقال: حتى لا أعينك على خيانة السلطان، ولما احتضر أنس ـ رضي الله عنه ـ
أوصى بأن يغسله محمد بن سيرين ويصلى عليه، وكان ما يزال سجيناً، فلما
توفى جاء الناس إلى الوالي واخبروه بوصية صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وخادمه واستأذنوه في أن يخلي سبيل محمد بن سيرين لإنفاذ الوصية
فأذن له.
فقال لهم محمد بن سيرين: لا أخرج حتى تستأذنوا صاحب الدين، فإنما حبست
بما له عليّ من الحق، فأذن له الدائن أيضاً، عند ذلك خرج من السجن فغسّل
أنساً وكفنه وصلى عليه، ثم رجع إلى السجن كما هو ولم يذهب لرؤية أهله.
سبحانك اللهم وبحمدك: أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.