* هذه السورة مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الوَحدانية، الرسالة، البعث" ولكنَّ المحور الذي تدور حوله هو موضوع "البعث والنشور" حتى ليكاد يكون هو الطابع الخاص للسورة الكريمة، وقد عالجه القرآن بالبرهان الناصع، والحجة الدامغة. وهذه السورة رهيبة، شديدة الوقع على الحسِّ، تهزُّ القلب هزَّاً، وترجُّ النفس رجاً، وتثير فيها روعة الإِعجاب، ورعشة الخوف بما فيها من الترغيب والترهيب.
* ابتدأت السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها كفار قريش، وتعجبوا منها غاية العجب، وهي قضية الحياة بعد الموت، والبعث بعد الفناء { ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.. } الآيات.
* ثم لفتت السورة أنظار المشركين – المنكرين للبعث – إِلى قدرة الله العظيمة، المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور، في السماء والأرض، والماء والنبات، والثمر والطلع، والنخيل والزرع وكلها براهين قاطعة على قدرة العلي الكبير {أفلم ينظروا إِلى السماء فوقهم كيف بنيناها ..} الآيات.
* وانتقلت السورة الكريمة للحديث عن المكذبين من الأمم السالفة، وما حلَّ بهم من الكوارث وأنواع العذاب، تحذيراً لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين {كذبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرس وثمود ..} الآيات.
* ثم انتقلت السورة للحديث عن سكرة الموت، ووهلة الحشر، وهول الحساب، وما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب من أهوال وشدائد تنتهي به بإِلقائه في الجحيم {ونفخ في الصور ذلك اليوم الوعيد ..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن "صيحة الحقِّ" وهي الصيحة التي يخرج الناس بها من القبور كأنهم جراد منتشر، ويساقون للحساب والجزاء لا يخفى على الله منهم أحد، وفيه إِثباتٌ للبعث والنشور الذي كذب به المشركون {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب * يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ..} الآيات.
إنكار المشركين البعث
{ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ(1)بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2)أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3)قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ(5)}.
{ق} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} قسمٌ حذف جوابه أي أقسم بالقرآن الكريم، ذي المجد والشرف على سائر الكتب السماوية لتبعثنَّ بعد الموت، قال ابن كثير: وجواب القسم محذوف وهو مضمون الكلام بعده وهو إِثبات النبوة، وإِثبات المعاد وتقديره: إِنك يا محمد لرسول وإِنَّ البعث لحق، وهذا كثير في القرآن.
وقال أبو حيان: والقرآنُ مُقْسَمٌ به، والمجيد صفته وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوفٌ يدل عليه ما بعده تقديره: لقد جئتهم منذراً بالبعث فلم يقبلوا.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي تعجب المشركون من إِرسال رسول إِليهم من البشر يخوفهم من عذاب الله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي فقال كفار مكة: هذا شيءٌ في منتهى الغرابة والعجب، انتقل من الضمير إلى الاسم الظاهر لتسجيل جريمة الكفر عليهم، والآية إِنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإِنهم قد عرفوا صدق الرسول وأمانته ونصحه، فكان الواجب عليهم أن يسارعوا إِلى الإِيمان لا أن يعجبوا ويستهزئوا.
ثم أخبر تعالى عن وجه تعجبهم فقال {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} أي أئذا متنا واستحالت أجسادنا إِلى تراب هل سنحيا ونرجع كما كنَّا؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي ذلك رجوع بعيد غاية البعد، مستحيل حصوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} أي قد علمنا ما تنقصه الأرض من أجسادهم، وما تأكله من لحومهم وأشعارهم ودمائهم إِذا ماتوا، فلا يضل عنا شيءٌ حتى تتعذَّر علينا الإِعادة {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي ومع علمنا الواسع عندنا كتاب حافظ لعددهم وأسمائهم وما تأكله الأرض منهم، وهو اللوح المحفوظ الذي يحصي تفصيل كل شيء {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} إِضراب إِلى ما هو أفظع وأشنع من التعجب وهو التكذيب بالقرآن العظيم أي كذبوا بالقرآن حين جاءهم، مع سطوع ءاياته، ووضوح بيانه {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي فهم في أمرٍ مختلط مضطرب، فتارة يقولون عن الرسول إِنه ساحر، وتارةً يقولون إِنه شاعر، وتارة يقولون إِنه كاهن، وهكذا قالوا أيضاً عن القرآن إِنه سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين إِلى غير ذلك.
من دلائل القدرة الدالة على عظمة الله تعالى
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ(6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7)تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(8)وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ(10)رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ(11)}
ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار، إِلى السماء في ارتفاعها وإِحكامها، فيعلموا أن القادر على إِيجادها قادر على إِعادة الإِنسان بعد موته؟ {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} أي كيف رفعناها بلا عمد وزيناها بالنجوم {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} أي ما لها من شقوق وصدوع {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي والأرض بسطناها ووسعناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي وجعلنا فيها جبالاً ثوابت تمنعها من الاضطراب بسكانها {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأنبتنا فيها من كل نوعٍ من النبات حسن المنظر، يبهج ويسر الناظر إِليه.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي فعلنا ذلك تبصيراً منا وتذكيراً على كمال قدرتنا، لكل عبد راجع إِلى الله متفكر في بديع مخلوقاته {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} أي ونزلنا من السحاب ماءً كثير المنافع والبركة {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي فأخرجنا بهذا الماء البساتين الناضرة، والأشجار المثمرة، وحبَّ الزرع المحصود، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب التي تحصد.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي وأخرجنا شجر النخيل طوالاً مستويات {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أي لها طلعٌ منضود، منظمٌ بعضه فوق بعض، قال أبو حيان: يريد كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر، وأول ظهور الثمر يكون منضَّداً كحب الرمان، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإِذا خرج من أكمامه فليس بنضيد {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أي أنبتنا كل ذلك رزقاً للخلق لينتفعوا به {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي وأحيينا بذلك الماء أرضاً جدبة لا ماء فيها ولا زرع فأنبتنا فيها الكلأ والعشب {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي كما أحييناها بعد موتها كذلك نخرجكم أحياء بعد موتكم، قال ابن كثير: وهذه الأرض الميتة كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت، فكما أحيا الله الأرض الميتة كذلك يَحْيي الله الموتى.
تذكير كفار مكة بمن سبقهم من المكذبين
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ(12)وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ(13)وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ(14)أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(15)}
ثم ذكَّر تعالى كفار مكة بما حلَّ بمن سبقهم من المكذبين إِنذاراً لهم وإِعذاراً فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذَّب قبل هؤلاء الكفار قوم نوح {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} أي وأصحاب البئر وهم بقية من ثمود رسُّوا نبيَّهم فيها أي دسُّوه فيها {وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} سمَّاهم إِخوانه لأنه صاهرهم وتزوج منهم {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي وأصحاب الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب، نُسبوا إِلى الأيكة لأنهم كانت تحيط بهم البساتين والأشجار الكثيرة، الملتف بعضُها على بعض {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} قال المفسرون: هو ملكٌ كان باليمن أسلم ودعا قومه إِلى الإِسلام فكذبوه وهو تُبَّع اليماني {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي جميع هؤلاء المذكورين كذبوا رسولهم، قال ابن كثير: وإِنما جمع الرسل لأن من كذَّب رسولاً فإِنما كذب جميع الرسل كقوله تعالى {كذبت قوم نوح المرسلين} {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجب عليهم وعيدي وعقابي، والآية تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفرة المجرمين.
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} أي أفعجزنا عن ابتداء الخلق حتى نعجز عن إِعادتهم بعد الموت؟ قال القرطبي: وهو توبيخٌ لمنكري البعث، وجوابٌ لقولهم {ذلك رجعٌ بعيد} ومراده أن ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإِعادةُ أسهلُ منه فكيف يُتوهم عجزنا عن البعث والإِعادة؟ {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي بل هم في خلطٍ وشبهةٍ وحيرة من البعث والنشور، قال الألوسي: وإِنما نُكَّر الخلق ووصفه بجديد، ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيهاً على استبعادهم له وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ عظيم.
سعة علم الله وكمال قدرته
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16)إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد(17)مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21)لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)}
ثم نبه تعالى على سعة علمه وكمال قدرته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي خلقنا جنس الإِنسان ونعلم ما يجول في قلبه وخاطره، لا يخفى علينا شيء من خفاياه ونواياه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي ونحن أقرب إِليه من حبل وريده، وهو عرق كبير في العنق متصل بالقلب، قال أبو حيان: ونحن أقرب إِليه، قُرْبَ علمٍ، نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته، وهو تمثيل لفرط القرب كقول العرب: هو مني مَعْقِدَ الإِزار، وقال ابن كثير: المراد ملائكتنا أقرب إِلى الإِنسان من حبل وريده إِليه، والحلول والاتحاد منفيان بالإِجماع تعالى الله وتقدَّس عن ذلك، وهذا كما قال في المحتضر {ونحن أقرب إِليه منكم ولكنْ لا تُبصرون} يريد به الملائكة، ويدل عليه قوله بعده {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد} أي حين يتلقى الملكان الموكلان بالإِنسان، ملك عن يمينه يكتب الحسنات، وملك عن شماله يكتب السيئات، وفي الكلام حذفٌ تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، قال مجاهد: وكَّل الله بالإِنسان – مع علمه بأحواله – ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره إِلزاماً للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات فذلك قوله تعالى {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد}.
وقال الألوسي: والمراد أنه سبحانه أعلم بحال الإِنسان من كل رقيب، حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إِيذانٌ بأنه عز وجل غنيٌ عن استحفاظ الملكين، فإِنه تعالى أعلم منهما ومطَّلع على ما يخفى عليهما، لكنْ الحكمة اقتضت كتابة الملكين لعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد، فإِذا علم العبد ذلك – مع علمه بإِحاطة الله تعالى بعلمه – ازداد رغبةً في الحسنات، وانتهاءً عن السيئات.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ما يتلفظ كلمةً من خيرٍ أو شر، إلا وعنده ملك يرقب قوله ويكتبه {عَتِيدٌ} أي حاضر معه أينما كان مهيأٌ لكتابة ما أُمر به، قال ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، وقال الحسن: فإِذا مات ابن آدم طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة {اقرأْ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسبياً} {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي وجاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإِنسان وتغلب على عقله، بالأمر الحق من أهوال الآخرة حتى يراها المنكر لها عياناً {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع. وفي الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان الله إنَّ للموت لسكرات".
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي ونفخ في الصور نفخة البعث ذلك هو اليوم الذي وعد الله الكفار فيه بالعذاب {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي وجاء كل إِنسان بَرَّاً كان أو فاجراً ومعه ملكان: أحدهما يسوقه إِلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله، قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم وهي الأيدي والأرجل {يوم تشهد عليهم ألسنتهُم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان، ملكٌ يسوقه وملك يشهد عليه.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي لقد كنت أيها الإِنسان في غفلةٍ من هذا اليوم العصيب {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ} أي فأزلنا عنك الحجاب الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي فبصرَك اليوم قويٌّ نافذ، ترى به ما كان محجوباً عنك لزوال الموانع بالكلية.
الحوار بين الكافر وشيطانه يوم القيامة
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ(23)أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25)الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26)قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(27)قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(29)يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ(30)}
سبب النزول:
نزول الآيات (24 – 26):
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ..}: قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي وقال الملك الموكل به : هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرتُ ديوان عمله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي يقول تعالى للملكين "السائق والشهيد" اقذفا في جهنم كلَّ كافر معاند للحقِّ لا يؤمن بيوم الحساب {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي مبالغ في المنع لكل حقٍّ واجب عليه في ماله {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} أي ظالم غاشم شاكٍ في الدين {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي أشرك بالله ولم يؤمن بوحدانيته {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي فألقياه في نار جهنم، وكرر اللفظ {فَأَلْقِيَاهُ} للتوكيد.
{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أي قال قرينه وهو الشيطان المقيَّض له ربنا ما أضللتُه {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي ولكنَّه ضلَّ باختياره، وآثر العمى على الهدى من غير إِكراهٍ أو إجبار، وفي الآية محذوفٌ دل عليه السياق كأن الكافر قال يا رب إِن شيطاني هو الذي أطغاني، فيقول قرينه: ربنا ما أطغيتُه بل كان هو نفسه ضالاً معانداً للحق فأعنته عليه.
{قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي فيقول الله عز وجل للكافرين وقرنائهم من الشياطين: لا تتخاصموا هنا فما ينفع الخصام ولا الجدال، وقد سبق أن أنذرتكم على ألسنة الرسل بعذابي، وحذرتكم شديد عقابي، فلم تنفعكم الآياتُ والنُّذر {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي ما يُغيَّر كلامي، ولا يُبدَّل حكمي بعقاب الكفرة المجرمين، قال المفسرون: المراد وعيدُه تعالى بعذاب الكافر وتخليده في النار بقوله تعالى {لأملأنَّ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين} {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي ولست ظالماً حتى أعذب أحداً بدون استحقاق، أو أعاقبه بدون جرم.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}؟ أي اذكر ذلك اليوم الرهيب يوم يقول الله تعالى لجهنم هل امتلأت، وتقول هل هناك من زيادة؟ وفي الحديث (لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ، قَطْ وعزتك وكرمك – أي قد اكتفيتُ – وينزوي بعضُها إِلى بعض) قدمه أي أقواماً استقدمهم من عتاة الكفار والظاهر أن السؤال والجواب على حقيقتهما، والله على كل شيء قدير، فإِن إِنطاق الجماد والشجر والحجر جائز عقلاً، وحاصلٌ شرعاً، وقد أخبر القرآن الكريم أنَّ نملة تكلمت، وأن كل شيء يسبح بحمد الله، وورد في صحيح مسلم أن المسلمين في آخر الزمان يقاتلون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فينطق الله الشجر والحجر .. الخ وقيل: إِن الآية على التمثيل وأنها تصويرٌ لسعة جهنم وتباعد أقطارها بحيث لو ألقي فيها جميع الكفرة والمجرمين فإِنها تتسع لهم، وهو كقولهم "قال الحائط للمسمار لم تشقني؟ قال: سلْ منْ يدقني".
حال المتقين
{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ(31)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(32)مَنْ خَشيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(33)ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ(34)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)}
ثم أخبر تعالى عن حال السعداء بعد أن ذكر حال الأشقياء فقال {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قُرّبت وأدنيت الجنة من المؤمنين المتقين مكاناً غير بعيد، بحيث تكون بمرأى منهم مبالغة في إِكرامهم {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أي يقال لهم: هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل عبدٍ أوَّاب أي رجَّاعٍ إِلى الله، حافظٍ لعهده وأمره {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أي خاف الرحمن فأطاعه دون أن يراه لقوة يقينه، وجاء بقلبٍ تائب خاضع خاشع {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي يقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له أبداً، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} أي لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ بهأعينهم {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي وعندنا زيادة على ذلك الإِنعام والإِكرام، وهو النظر إِلى وجه الله الكريم.
تخويف منكري البعث، وأوامر للرسول صلى الله عليه وسلم
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(37)وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ(38)فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(39)وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(40)وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(41)يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ(43)يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ(44)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ(45)}
سبب النزول:
نزول الآية (38):
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ ..}: أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فنزل: {وَلَقَدْ خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ..}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، لو خوفتنا؟ فنزلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.
ثمَّ خوَّف تعالى كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم فقال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي هم أقوى من كفار قريش قوة، وأعظم منهم فتكاً وبطشاً {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي فساروا في البلاد، وطوَّفوا فيها وجالوا في أقطارها، فهل كان لهم من الموت مهرب؟ وهل كان لهم من عذاب الله مخلص؟
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي إن فيما ذُكر من إهلاك القرى الظالمة، لتذكرة وموعظة لمن كان له عقل يتدبر به، أو أصغى إِلى الموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ويعتبر، قال سفيان: لا يكون حاضراً وقلبه غائب، وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه إِذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وعبَّر عن العقل بالقلب لأنه موضعه كما قال تعالى: {فإِنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور}
{وَلقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} هذه الآية ردٌّ على اليهود حيث زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أوَّلهُا يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وأنه تعب فاستراح يوم السبت واستلقى على ظهره فوق العرش، فكذبهم الله تعالى.
والمعنى والله خلق السماوات السبع في ارتفاعها وعظمتها، والأرض في كثافتها وسعتها، وما بينهما من المخلوقات البديعة في ستة أيام، وما مسَّنا من إِعياء وتعب.
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي فاصبرْ يا محمد على ما يقوله اليهود وغيرهم من كفار قريش، واهجرهم هجراً جميلاً {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} أي ونزِّه ربك عما لا يليق به، وصلِّ له واعبدْه وقتي الفجر والعصر، وخصَّهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} أي ومن الليل فصلِّ للهِ تهجداً وأعقاب الصلوات المفروضة، قال ابن كثير: كانت الصلاة المفروضة قبل الإِسراء ثنتان قبل طلوع الشمس، وثنتان قبل الغروب، وكان قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أُمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ كل ذلك ليلة الإِسراء بخمس صلواتٍ، وبقي منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي واستمع يا محمد النداء والصوت حين ينادي إِسرافيل بالحشر من موضع قريب يصل صوته إِلى الكل على السواء، قال أبو السعود: وفيه تهويلٌ وتفظيع لشأن المخبر به، والمنادي هو إِسرافيل عليه السلام يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إِن الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} أي يوم يسمعون صيحة البعث التي تأتي بالحقِّ – وهي النفخة الثانية في الصور – {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أي ذلك هو يوم الخروج من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أي نُحيي الخلائق ونميتُهم في الدنيا، وإِلينا رجوعهم للجزاء في الآخرة، لا إِلى غيرنا {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} أي يوم تنشقُّ الأرضُ عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إِلى موقف الحساب استجابةً لنداء المنادي {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي ذلك جمع وبعث سهلٌ هيّنٌ علينا لا يحتاج إِلى عَنَاء {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي نحن أعلم بما يقول كفار قريش من إِنكار البعث والسخرية والاستهزاء بك وبرسالتك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي وما أنت يا محمد بمسلَّط عليهم تجبرهم على الإِسلام، إِنما بعثت مذكّراً {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أي عظْ بهذا القرآن من يخاف وعيدي .. ختم السورة الكريمة بالتذكير بالقرآن كما افتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام.
منقول لاجل عيونكم