في عرض البحر وعلى ظهر سفينة مكتظة بالبشر يعيش البحار على وجبة واحدة من الأرز وبعض حبات التمر لفترة أربعة شهور، تقف السفينة ويبدأ البحارة الغوص في أعماق البحر بحثا عن اللؤلؤ في أماكن ليست بعيدة عن سمك القرش والقناديل، في مهمة شاقة ورتيبة تتم على مراحل مختلفة. ويقول المؤرخون والغواصون: إن عملية الغوص كانت حتى الثلاثينيات من القرن العشرين تتطلب الغوص طيلة النهار من دون خزانات الأوكسجين، تتخللها فترات قصيرة جدا من الصعود إلى السطح للتنفس. واعتاد هؤلاء البحارة على ذكر الله من خلال بعض الأغاني والمواويل التي تحفزهم على تحمل المشقات أثناء عملهم، وأصبح لكل عمل الأغنية الخاصة به.
وتعد عملية البحث عن اللؤلؤ من أقدم المهن المعروفة في منطقة الخليج، والتي مثلت أهم مصادر الدخل قبل اكتشاف النفط في الثلاثينيات من القرن الماضي، وبدء نزول اللؤلؤ الياباني الاصطناعي؛ حيث أصبح صيد اللؤلؤ أقل ربحا مما مضى، فانصرف عنه الغواصون إلى ضروب أخرى من العمل كسبا للقمة العيش.
ورغم ذلك ما زال للؤلؤ أهمية رمزية كبيرة في قطر؛ حيث يمكن رؤية شكله المميز في تصاميم العلامات التجارية، وهناك نصب على شكل لؤلؤة عملاقة وضعت على شارع الكورنيش كنوع من التخليد للتراث القطري في الغوص من أجل اللؤلؤ.
في ركاب البحر
الغواص ممسك بالديين والفطام في أنفه
وقد ارتبط أهل قطر بالبحر بعلاقة وطيدة منذ القدم؛ حيث كان عماد الحياة الأساسي والمصدر الرئيسي للرزق، وخاصة في مجال الغوص للبحث عن اللؤلؤ.
وتبدأ رحلات الغوص في الربيع برحلة قصيرة تسمى "الخانجية" وتستمر لمدة شهر، يعقبها مباشرة الموسم الرئيسي للغوص وهو ما يسمى بالغوص "العود" أي الكبير. والشروع في هذه الرحلة التي تستمر لمدة 4 شهور و10 أيام تسمى "الدشة" أو "الركبة"، ونهاية هذه الرحلة وعودة السفن إلى الديار يطلق عليه "القفال"، والمقصود بها احتفالية تقام للقاء الغائبين على طول شواطئ الخليج، يشارك فيها النساء والأطفال، فرحين بعودة سفن الغوص بعد غياب طويل. وتطلق هذه الكلمة على موعد نهاية الغوص ومعناها العودة؛ فالقفال: من قفل من السفر أي رجع. وكانوا يطلقونها على العائدين من رحلات صيد اللؤلؤ في ذلك الموعد المحدد. ولا تطلق كلمة قفال على أي سفينة عائدة من رحلة الغوص، وإنما هناك شروط محددة للقفال:
1. أن تكون عودة السفن في موعد زمني معين، وهو الأيام الأولى من شهر أكتوبر عندما يصبح الطقس متقلبا والمياه باردة؛ إذ يصبح الغوص عملية شاقة على البحارة. فإذا عادت السفن في أي أيام أخرى فإنها لا تكون قفالا، ولكن يطلقون عليها كلمة "الدخلة" أو "دخلوا"؛ أي دخلوا البلاد خاصة في الفترات التي يتم فيها التزود بالمؤن أو إنزال مريض أو ميت.
2. أن تكون عودة السفن جماعية، ويتم تحديد موعد عودتها باتفاق السلطات الحاكمة مع "سردال" الغوص (أي أمير الغوص)، وهو الشخص المسئول عن جميع السفن التابعة لمدينة أو دولة واحدة، والتي تخرج لموسم الغوص. ويتم الإعلان عن هذا الموعد رسميا. وعندما يحين هذا الموعد يأمر السردال بإطلاق مدفع إيذانا بانتهاء موسم الغوص والعودة إلى الوطن، فتتجمع السفن المنتشرة في البحر، وتبدأ التوجه نحو الوطن مرفوعة الأعلام، وتعم الأفراح في البلاد؛ فالعودة من الموسم (القفال) بمثابة عيد للجميع.
وإذا حدث وتأخرت السفن عن موعدها فإن ذلك يكون مصدر قلق وتوقعات غير سارة، فيجتمع الأهل على الساحل في المرافئ يرابطون فيها حتى عودة السفن
أهازيج البحر
وكان من عادة أهل هذه المهنة أن يترنموا بأهازيج وأغانٍ تخفيفا من قسوة البحر وغربة البعد عن الأهل أثناء ممارسة العمل؛ لذا عرفت بـ"أغاني العمل". ولهذه الأغاني دور حيوي في نفوس البحارة أثناء عملهم الشاق، إذ تدفعهم إلى مزيد من بذل الجهد ونسيان مشقة العمل. وتتميز تلك الأغاني بإيقاعها السريع الذي يتناسب مع سرعة العمل، كما يلاحظ فيها عدم استخدام الآلات الموسيقية عدا الطبل و"الطوس" أي الصجات، وما يصدر عن البحارة من تصفيق منظم وضرب بالأرجل على سطح السفينة.
ويعد هذا الغناء تعبيرا صادقا عن الالتجاء إلى الله وطلب العون منه سبحانه للصبر على فراق الأهل والأحبة وقسوة العمل، فيتوسلون إليه بتيسير أعمالهم وإنجاح مهمتهم، كما يظهر في بعض هذه الأغاني مدى الشوق للأهل والأحبة.
ويقوم "النهام" -وهو المغني صاحب الصوت القوي- بقيادة البحارة في تناغم شجي بترديده "المواويل"؛ مثل الموال السباعي أو ما يسمى "الزهيري".
أنواع الغناء على سفن الغوص:
البريخة:
فن يصاحب عملية سحب "الخراب" -أي حبل المرساة- وهو أول عمل على سطح السفينة. والمرساة كانت تسمى في الخليج قديما "السن"، وهي قطعة من الحجر الصلب مثلثة الشكل، في أحد رءوسها ثقب يُربط به حبل لجر المرساة، وتستغرق تلك العملية زمنا طويلا نتيجة لثقل المرساة وطول الحبل المربوطة فيه. و"البريخة" -أي سحب الخراب- نوعان:
البريخة على صدره:
وهو أن يقوم "السيوب" -ومفردها سيب، وهو الرجل المكلف بسحب "الغيص" (أي الغواص من قاع البحر)- بسحب الحبل وهم وقوف. وينقسمون إلى صفين متقابلين بطول السفينة، وبينهم الحبل الذي يمسكون به، ووجوههم ناحية صدر السفينة. وهي طريقة تمارس عندما تكون الرياح ساكنة.
بريخة دواري:
وتمارس هذه الطريقة عندما تكون كمية المحار الموجود على ظهر السفينة تسمح للبحارة بسحب الخراب بشكل دائري حول أطراف السفينة.
اليره (أي جر المجاديف):
عادة ما يقرر النواخذة استخدام المجاديف في التنقل، وذلك في حالة مواجهة السفينة لبعض الصعوبات، مثل أن يكون الهواء ساكنا أو تكون المياه في حالة الجزر؛ مما لا يساعد السفينة على السير بواسطة الأشرعة، أو قد يكون المكان قريبا ولا يستدعي رفع الشراع .
الجيب:
وهو الشراع الصغير الذي يرفع في مقدمة السفينة، وعادة ما يرفع للمراحل القصيرة، أو في حالة الرياح القوية أو المعاكسة.
الخطفة:
وهي من ألوان أغاني العمل، وتصاحب رفع الشراع الكبير للسفينة، وتستخدم عند الانتقال من الوطن إلى مغاصات اللؤلؤ، وتسمى "الهيرات" -مفردها هير- وكذلك عند العودة للوطن. ويعتبر هذا العمل من أهم وأكبر المهمات على ظهر السفينة، وهو رهن إشارة النوخذ الذي يصيح بالمجموعة: "اخطف"؛ وهي تعني الإمساك بقوة بحبال الشراع الكبير الذي يحتاج إلى طاقة وسرعة في رفعه.
نماذج من نصوص أغاني البحارة:
فلق المحار
* هولو يا ألله الهادي
آه تهدينا
والله وقلب مشقي
والبحر دونه
يا سيد المرسلينا
اشفع لنا يا محمد
اشفع لنا بالشدائد
يا مول الغائبينا
* ودعتكم بالسلامة يا ضوي عيني
وخلافكم ما طبق جفني على عيني
واعدتني بالوصل لمن حفت عيني
ظليت يا سيدي جسم بلايا روح
قد فر مني العقل وصار الجسم مطروح
كل العرب هودت وأنا خلي الروح
يا نور عيني مثل ما رعاك راعيني