ولقد أثبت هذا المبدأ غاليلو ( 1564 – 1642 ) أولاً عندما دفع بكرات على سطوح يتفاوت انحناؤها , فمثلاً إذا دفعنا بكرة على سطح أفقي مصقول صقلاً تاماً فإنها تنزلق عليه في اتجاه واحد , وتكاد تكون بسرعة واحدة لولا أن مقاومة الهواء لها واحتكاكها بالسطح يتدخلان في انزلاقها فيضطرانها إلى الوقوف في نهاية الأمر , ولو استطعنا أن نمنع هاتين المقاومتين إذن لما تزحزحت الكرة عن سيرها ولظلت منطلقة إلى الأبد في اتجاه واحد وبسرعة واحدة , وجاءت تجارب أخرى مؤيدة لهذا المبدأ , ولكنه على كل حال لم يثبت ثبوتاً قطعياً , لأن من المستحيل عملياً عزل الجسم عن كل تأثير خارجي .
ثم جاء نيوتن فلم يكتفِ بتحقيق هذا المبدأ على أسس أرضية بل راح يتطلع إلى تحقيقه في عالم النجوم ، حيث قال : إننا إذا صرفنا النظر عن التأثير الجاذبي لسائر الأجرام السماوية وعلى قدر ما في وسعنا لكي نحكم على هذا الأمر , فإنه يبدو لنا أن السيارات تحتفظ باتجاهها وسرعتها بالنسبة إلى قبة السماء , لكن آينشتاين يعترض على الجملة ويرى أنها حكم مسبق على الأمور , إذ لا بد من إثبات ذلك من أجل التسليم بالأمر , حيث يفترض أينشتاين أن السيارات ( الأجرام ) لا تجري حرة طليقة من كل قيد , وأنها بالتالي مقهورة في حركتها بقوة سماها نيوتن الجاذبية الكونية , فعلى رغم كون مبدأ القصور الذاتي مبدأ تقريباً في نظر أينشتاين , فإن نيوتن يعتبره قطعياً ونهائياً , ولذلك فإنه عندما لاحظ نيوتن أن السيارات لا تسير في خط مستقيم بل تدور دوراناً استنتج أنها تخضع لقوة مركزية هي الجاذبية افترضها فرضاً مثلما كان يفرض من قبل الزمان المطلق والمكان المطلق .
وفي الطبيعة ظاهرة فريدة من نوعها اكتشفها غاليلو : إذا ألقينا أجساماً مختلفة من مكان مرتفع فإنها تسقط على الأرض بسرعة واحدة مهما تكن طبيعتها , على أن يجري ذلك في وعاء مفرغ من الهواء , فالحديد والقطن يصلان إلى الأرض في وقت واحد معاً , وتبدو هذه الظاهرة خروجاً على مبدأ القصور الذاتي , فإذا كان هذا القانون صحيحاً فما بال جميع الأجسام تنتقل عمودياً ( أي تسقط ) بسرعة واحدة بغض النظر عن أحجامها وكتلها , بينما الأجسام التي تدفع أفقياً تنتقل بسرعات تختلف باختلاف كتلتها , كأن عامل القصور الذاتي لا يؤثر إلا في الإتجاه الأفقي ؟
هنا انبرى نيوتن لحل هذا اللغز فقرر في قانونه المشهور أن القوة الخفية التي يجذب بها جسم جسماً آخر تكبر بنسبة حاصل جداء كتلتيهما على مربع المسافة بينهما , فإذا كان الجسم كبيراً أو المسافة قصيرة اشتد التجاذب , أما إذا كان صغيراً والمسافة طويلة كان قصوره أو ميله لمقاومة الحركة صغيراً وكانت سيطرة الجذب عليه ضئيلة أيضاً , وبعبارة أخرى بين الجاذبية والقصور الذاتي أمر مشترك هو أنهما يشملان كل شيء , فجميع الأجسام مهما تكن طبيعتها الفيزيائية والكيميائية هي في نفس الوقت ( قاصرة ) أو عاجزة عن تحريك ذاتها بمحض ذاتها وعن تغيير سرعتها أو اتجاهها إذا كانت متحركة , أي أنها تقاوم كل قوة من شأنها زحزحتها عن حالها و ( وازنة ) أي تسقط على الأرض عندما لا يعوقها عائق , فالرقم الذي يحدد القصور الذاتي لجسم ما هونفسه الذي يحدد وزنه وثقله , وهذا الرقم هو الكتلة , فالكتلة القاصرة والكتلة الوازنة للأجسام يعبر عنهما برقم واحد بالضبط , فهناك إذن صلة بين الجاذبية والقصور الذاتي , ويبدو أن درجتها تكون دائماً على حسب ما هو ضروري للتغلب على قصور الجسم مهما تكن طبيعته , ولذلك فجميع الأجسام تسقط على الأرض بسرعة واحدة بغض النظر عن نوعها .
فهذا التوافق الشديد بين التجاذب والقصور الذاتي تقبله نيوتن كما هو من غير أن يفهمه أو أن يحاول تفسيره , وظل أمره مجهولاً حتى أوائل القرن الماضي , فلما جاء أينشتاين وجد في الأمر سراًفهو أكثر من أن يكون محض صدفة أو إتفاق عارض , لقد استنتج من هذا التلازم استنتاجاً قفز بنظريته إلى مرتبة النظريات الخالدة وجعله في طليعة العظماء الذين يشح بهم التاريخ , حيث قال : إن الصفة الواحدة تتجلى تبعاً للظروف والأحوال تارةً على هيئة جاذبية وتارةً على هيئة قصورذاتي , فالجاذبية هي انتفاضة القصورالذاتي , وبعبارة أخرى إن قوانين الجاذبية إنما تعبر عن قصور المادة وسيتضح ذلك فيما بعد تباعاً .
لقد نبذ أينشتاين فكرة الجاذبية من حيث أنها قوة تنتقل لحظياً عبر المسافات الهائلة , لقد بدا هذا القول لعالِمنا الفذ بأن الأرض يمكنها أن تنتفض في المكان " الفضاء " وأن تجذب إليها جسماً ما بقوة تعادل مقاومة قصور ذلك الجسم أمراً لا يمكن قبوله , وهكذا طلع علينا من هذا الإعتراض بنظرية جديدة في الجاذبية أثبتت التجربة أنها تقدم لنا صورة عن الطبيعة أدق كثيراً من نظرية نيوتن .
وقبل أن نوغل في هذا المعنى , لنا ملاحظة عابرة على قانون نيوتن نحب أن نوضحها للإخوة القراء في هذا المدونة الكريم , فكما رأينا أن الأجسام تتجاذب تجاذباً مباشراً
أو طردياً بنسبة حاصل جداء كتلتي الجسمين , وتجاذباً غير مباشراً أو عكسياً بنسبة مربع المسافة بينهما , لقد لقي هذا القانون نجاحاً هائلاً وظل يتمتع بمنزلة عظيمة طوال قرنين من الزمن , وهو لا غبار عليه إذا نُظر إليه في نطاق السرعات العادية , ولكن يجب أن نتحفّظ في أمره عند تطبيقة على السرعات الكبيرة التي تقرب من سرعة الضوء , ذلك أن الكتلة لا تبقى ثابتة مع مثل هكذا سرعات هذا من جهة , ومن جهة ثانية عندما نُدخل الأرض في حسابنا فأي أرض نعني هل نعنى كتلة الأرض الصغيرة فيما إذا كان الإفتراض أنها لا تتحرك أم كتلتها الكبيرة التي تتأتى من دورانها حول الشمس , ثم إن هذا الدوران ليس له سرعة واحدة دائماً لأن الأرض تجري في مدار إهليلجي وليس في خط دائري بالضبط , فأي كتلة ندخل في الحساب استناداً للسرعة المتغيرة , وفوق ذلك أي مسافة نُدخل في اعتبارنا بين الشمس والأرض ؟ هل المسافة التي تتراءى لشخص على سطح الأرض تجره معها ويشارك في حركتها أم التي تتراءى لشخص في وسط المجرة لا يشارك في حركة الأرض , فهنا أيضاً يختلف تقدير المسافة تبعاً لسرعة العالم الذي ينتسب إليه هذا الشخص ؟ .
وأنا لا أنكر أن هذه الفروق طفيفة , لكن ذلك لا يبرر إغفالها , فقانون نيوتن قانون غامض مطاط ولابد من تعديله وإعادة النظر فيه على ضوء ما جد من أبحاث .