الناظر إلى الأرض في ذلك الوقت يجد أن القوى الموجودة كانت متمثلة في فئتين رئيسيتين:
أما الفئة الأولى فهي أمة الإسلام..
المساحات الإسلامية في هذا الوقت كانت تقترب من نصف مساحات الأراضي المعمورة في الدنيا.. كانت حدود البلاد الإسلامية تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا حيث بلاد الأندلس..
وهي مساحة شاسعة للغاية، لكن وضع العالم الإسلامي – للأسف الشديد – كان مؤلماً جداً.. فمع المساحات الواسعة من الأرض، ومع الأعداد الهائلة من البشر، ومع الإمكانيات العظيمة من المال والمواد والسلاح والعلوم.. مع كل هذا إلى أنه كانت هناك فرقة شديدة في العالم الإسلامي، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية.. والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري.. حيث كانت أمة الإسلام قوية منتصرة متحدة رائدة.. ولكن هذه سُنة ماضية: [وتلك الأيام نداولها بين الناس].
مقدمة
اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة "بغداد"، وكان هولاكو قلقاً من أي مفاجئات، وبالذات من الأمراء المسلمين الذين انضموا إلى جيشه، ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضموا إليه لم يكن في نيتهم أبداً الغدر "بهولاكو"، إنما كان العزم – كل العزم – أن يغدروا "ببغداد"!!!!..
كان مجلس الحرب معقوداً في مدينة "همدان" الفارسية (في إيران حالياً) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي.. وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
ـ الجيش الأول: هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيرسلها "باتو" زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مروراً بمدينة كرمان شاه، وستكون مهمة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية..
ـ الجيش الثاني: هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده "كتبغا" أفضل قواد هولاكو، وسيتحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضاً، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً على أن هذا الجيش ستكون له مهمة اختراق سهول العراق، والتوجه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية..
ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلومترًا إلا أن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين ـ إن كانت هناك عيون ـ فلم يكتشف العباسيون الجيش إلا وهو على بعد كيلومترات معدودة من بغداد!!..
ـ أما الجيش الثالث: فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن) والذي كان مكلفاً بفتح أوروبا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير "بيجو"، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب..
لكن هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث:
أما المشكلة الأولى: فإن عليه أن يضبط توقيته حتى يأتي بغداد في نفس الوقت الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيداً أمام العباسيين إن جاء مبكراً، أو ترك هولاكو وحيداً إن كان متأخراً.. فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحركات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة السرعة بدقة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلا عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهدة علمنا صعوبة هذه النقطة.. ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد، دلالة على دقة حساباته، ومهارته في التحرك بهذا الجيش الكبير..
المشكلة الثانية: من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى.. وهي أن هذا الجيش الثالث – لكي يصل إلى بغداد – عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلومتر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلومتر أخرى في الأراضي العراقية.. وهذه كلها أراضٍ إسلامية..!! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلومتر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد.. وتذكر أننا نتحدث عن زمن ليس فيه طائرات.. أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يقابله من معوقات.. لقد كانت أقل المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد – على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعد له الجيش العباسي قبل وصوله، أما المخاطر الأكبر التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه المليء بالتجمعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتوضع له الشراك.. وتذكر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرة الأولى في حياته، لكن ـ سبحان الله! ـ كل هذا لم يحدث.. لقد قطع "بيجو" بجيشه 95% من الطريق (أي حوالي950 كيلومترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئاً..!! لقد باغت "بيجو" الخلافة العباسية على بعد خمسين كيلومترًا فقط شمال غرب بغداد!! لقد اكتشف العباسيون جيش "بيجو" تماماً كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!!..
وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نفسر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!!
إن تبرير اختراق "بيجو" للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين:
أما المصيبة الأولى: فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تماماً، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها..
أما المصيبة الثانية والأعظم: فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين… هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أي نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنب شره، وخافوا أن يدلوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك..
خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول..
و خيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل..
فبدر الدين لؤلؤ لم يكتف بتسهيل مهمة التتار، وبالسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تعينهم على عملية "تحرير العراق" من حكم الخلافة العباسية!!..
ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عاماً! وقيل: مائة..!!! وجدير بالذكر أيضاً أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!!!..
ونسأل الله حسن الخاتمة..
كانت هذه هي تحركات الجيش التتري..
منقولً